ما يجري في غزة هو استمرار لمجزرة جماعية بحق شعب جريمته الوحيدة هي أنه وُلد ويعيش على أرض يريد مجرمون احتلالها. من الواضح أن ما احتلوه حتى الآن لا يكفيهم، فهم يعتبرون كل أرض فلسطين من غزة إلى الضفة الغربية ملكًا لهم، ولا يترددون في ارتكاب أي جريمة لتحقيق هذا الهدف. إنهم فاشيون لا يطمعون فقط في فلسطين، بل يخططون للسيطرة على أجزاء واسعة من أراضي دول أخرى في الشرق الأوسط، ولا يخجلون من تحويلها إلى غزّات جديدة وتنفيذ تطهير عرقي فيها.
إقرار "ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل" باعتبارها "أرض الشعب اليهودي" في الكنيست الإسرائيلي، يكشف عن ذروة وقاحة وفاشية الحكّام الإسرائيليين في سعيهم لتقنين القتل والجرائم والتطهير العرقي في الضفة الغربية.
لكن جنون إسرائيل لا يقتصر على جرائمها في فلسطين. إسرائيل، مدعومة دعمًا غير مشروط من الدول الغربية، شنت خلال هذه الفترة هجمات على لبنان وسوريا، بل وهاجمت إيران أيضًا باتفاق مع الولايات المتحدة، مما أدى إلى حرب دامت 12 يومًا انتهت بتراجعها عن أهدافها وإعلان هدنة مؤقتة بدعم من ترامب. واليوم، وبدعوى "حماية الدروز" في سوريا، شنت إسرائيل غارات واسعة النطاق على هذا البلد واحتلت مناطق جديدة منه.
شعب فلسطين واجه على مدى 70 عامًا مختلف الحكومات الإسرائيلية الوحشية في سبيل الدفاع عن حقه في الحياة والبقاء في منزله وبلده، ولم يستسلم حتى اليوم. هذه الأرض، بعد سبعين عامًا من الاحتلال، والتهجير من البيوت على يد المستوطنين وجيش الاحتلال، وبعد القصف والاغتيالات والمجازر التي خلفت مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين، أصبحت أصغر فأصغر. اليوم، القطاع الصغير المتبقي من غزة، الذي يقطنه مليونا إنسان، يتعرض منذ قرابة عامين للقصف المتواصل، ودوي الطائرات الحربية، وانفجارات القنابل، وانهيار المباني والمنازل والمدارس والمستشفيات، ويواجه خطر الإبادة الكاملة والموت البطيء.
غزة أصبحت مسلخًا وجحيمًا أسوأ من أوشفيتز، لكن الفارق هنا أن كل شيء علني وأمام أعين العالم. الحكومة الفاشية الإسرائيلية، في وضح النهار، ومن خلال الحصار ومنع الغذاء والماء والدواء والوقود ومقومات الحياة، تسعى لقتل مليوني إنسان بالجوع.
الجزارون الذين يذبحون شعب فلسطين، طردوا كل المنظمات الإنسانية من المنطقة، وأغلقوا كل الممرات والمعابر. وبكل وقاحة، وبالتعاون مع الولايات المتحدة، تولوا "مسؤولية" إيصال "المساعدات الإنسانية" إلى غزة بأنفسهم. لكن خلال هذه الفترة، قدّمت ما يسمى بالمساعدات الإسرائيلية الرصاص بدلًا من الطعام. أماكن توزيع "المساعدات الإنسانية" تحوّلت إلى ساحات قتل للرجال والنساء، الشيوخ والأطفال. لقد أجبروا الجائعين والمحرومين على مد أيديهم لقتلة أطفالهم وآبائهم وأحبّائهم، من أجل كسرة خبز! لكنهم في كل مرة يواجهون بالرصاص بدل الماء والغذاء.
تحولت مجازر الناس الجياع والعطاشى في طوابير الخبز إلى لعبة وتسليّة لأكثر جيوش العالم دموية. الجزارون الإسرائيليون الذين من المفترض أن يقدّموا المساعدات، أطلقوا النار خلال الأشهر الماضية على أكثر من ألف إنسان بريء أثناء وقوفهم للحصول على الغذاء والماء.
اللافت للنظر ليس فقط دعم الحكومات الغربية لإسرائيل رغم كل هذه الجرائم، بل مشاركتهم الكاملة في هذه الإبادة الجماعية. هذه الحكومات، رغم المجازر، ورغم قتل مئات من موظفي الأمم المتحدة، والصحفيين، وأطباء بلا حدود، ما زالت لا تدعم إسرائيل فحسب، بل تزودها بكل الإمكانيات. إن حجم هذا الدعم والتعاون بلغ حدًا يرى فيه الأحرار في العالم أن رؤساء هذه الحكومات يقفون إلى جانب نتنياهو وآخرين من قادة إسرائيل كمجرمي حرب ويطالبون بمحاكمتهم.
اليوم، الكراهية تجاه إسرائيل والاحتجاج على جرائمها عمّت أرجاء العالم، وقد باتت الحكومات الغربية وداعمو إسرائيل تحت ضغط هذه الحركة العالمية.
المطالبة بقطع كل أنواع الدعم لإسرائيل، والدعوة إلى مقاطعتها وفرض العقوبات عليها، أصبحت اليوم مطلبًا عالميًا. عمال كثيرون، من موانئ فرنسا والسويد إلى اليونان وإيطاليا، امتنعوا عن تحميل أو تفريغ السفن المتجهة من وإلى إسرائيل. العديد من النقابات العمالية الكبرى عبّرت عن احتجاجها على جرائم إسرائيل والإبادة الجماعية التي ترتكبها. يوميًا نشهد في أرجاء مختلفة من العالم تظاهرات وتجمعات ضخمة ضد إسرائيل وحلفائها وشركائها الغربيين. هذه الحركة لا تعرف التوقف، بل تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم.
ضغط هذه الحركة العالمية ضد إسرائيل وشركائها أجبر الحكومات الغربية على استخدام خطابها المألوف والمخادع والمليء بالنفاق، فبدأت تطالب بـ"تقليل" الجرائم والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. لكنكم لن تجدوا حكومة غربية واحدة قلّصت تعاونها مع إسرائيل أو دعمتها بشكل أقل، حتى في خضم هذه الإبادة الجماعية. بعيدًا عن الحكومات الغربية المتورطة مباشرة في هذه الجرائم، فإن بقية الدول، من الصين إلى روسيا ودول المنطقة، رغم إدانتهم الشكلية لجرائم إسرائيل، لم يتخذوا أي خطوة عملية لوقف آلة القتل الجماعي الإسرائيلية، ولم يبدوا أي نية حقيقية لذلك. لا واحدة من هذه الدول — بما في ذلك تركيا، أو الدول العربية التي تدّعي الدفاع عن القضية الفلسطينية، أو الصين وروسيا والبرازيل وغيرها — قللت من علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل حتى ولو بنسبة ضئيلة.
ومع ذلك، وبغض النظر عن هذا التواطؤ المخزي الشامل، فقد سقط القناع عن وجوه الجميع في هذه المرحلة. لم تترك فلسطين وما تتعرض له من إبادة على يد إسرائيل، وأبعاد الوحشية والجرائم الإسرائيلية، أي مصداقية تُذكر لحكومات الغرب التي تزعم الدفاع عن "الحضارة"، و"حقوق الإنسان"، و"الديمقراطية". لقد أصبحت هذه المرحلة مقياسًا حقيقيًا لفهم الطبيعة اللاإنسانية لهذه الأنظمة. درجة التوحش والعدوانية لدى الحكومات الغربية ووسائل إعلامها، بصفتها أدوات لنشر الأكاذيب، في تعاملها مع القضية الفلسطينية وجرائم الجيش والدولة الفاشية الإسرائيلية، كانت عالية إلى حد أنها لم تترك أي مجال للتوهم حتى لدى أكثر الناس سذاجةً في المجتمعات الغربية.
الراية الزائفة لـ"محاربة إرهاب حماس"، التي رفعها كل من الحكومات الغربية، ومؤيدو الإرهاب الرسمي للدولة الإسرائيلية، وأحزاب سياسية كثيرة، وحتى بعض من يُطلق عليهم "اليسار" في المعارضة الإيرانية، قد أصبحت اليوم، في ظل المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين، وتحت دعاوى الحكومة الإسرائيلية الفاشية وعسكرة المنطقة، وبلطجة حكومة ترامب وتواطؤ الحكومات الغربية معها وضد شعب فلسطين والمنطقة، أكثر انكشافًا وانعدامًا للمصداقية من أي وقت مضى. اليوم، وبغض النظر عن كل جريمة ترتكبها إسرائيل، أو عن كل مغامرة عدوانية تقوم بها، فإن كراهية العالم المُحقّة لها أصبحت إلى درجة جعلت حتى الهولوكوست وجرائم النازيين ضد البشرية تبدو على الهامش. لقد تمّ تثبيت صورة إسرائيل في الوعي العالمي ولدى التاريخ باعتبارها مركزًا للوحشية والقتل، ومركزًا للفساد والإرهاب والجريمة. أما داعموها وشركاؤها — من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وألمانيا وغيرها — فقد وُسِموا أيضًا كمشاركين في جرائم الإبادة.
رغم ما تحمله هذه المرحلة السوداء من مآسٍ لشعب فلسطين والمنطقة، فإنها كانت أيضًا مرحلة فقدان "العالم المتحضر" لكل مصداقيته، ومرحلة سقوط كل مزاعم الحكومات الغربية — من حقوق الإنسان، إلى الحقوق المدنية، وحرية التعبير، وحقوق المواطنين داخل بلدانهم. كانت مرحلة شهدت فيها البشرية، بعيون مفتوحة، الوجه الحقيقي للنظام العالمي الحاكم، وللساسة الإجراميين الذين كسروا كل حدود التوحش والهمجية تحت عباءة "الديمقراطية الغربية" و"البرلمانات" و"العالم الحر". مرحلة انكشفت فيها بوضوح الطبيعة الوحشية للرأسمالية، بجميع أشكالها، وبكل قسوتها وافتقارها للرحمة، وهي تشهر سيوفها ضد كل أشكال العدالة دون أي قناع. إنها مرحلة طرحت من جديد، وسط تحوّلاتها وجرائمها التي ارتُكبت باسم "حرية الشعوب" والتي راح ضحيتها ملايين الأبرياء، وفي قلب الجرائم الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، سؤالًا كبيرًا أمام البشرية: كيف نتحرر من هذا النظام العالمي وحكوماته؟ كيف نضع حدًا لوحشية النظم الرأسمالية؟ وكيف نصل إلى السلام والأمن والرفاه والعدالة لكل شعوب العالم؟
وبلا شك، فإن إمكانية ارتكاب مثل هذه الجرائم في القرن الحادي والعشرين لا تعني إلا شيئًا واحدًا: انحطاط وسقوط النظام الرأسمالي في العالم كله، بمختلف أسمائه وأشكاله.إن إنهاء هذا العالم المنحط، وإنقاذ القيم الإنسانية وإنجازات الحضارة البشرية، هو مهمة الحركات الجماهيرية، ومهمة الحركة العمالية الراديكالية والاشتراكية.
24 يوليو 2025