محمد علوش : فلسطين بين ركام الجغرافيا وغدر السياسة

في هذه المنطقة من العالم، حيث يلتقي التاريخ بالحلم، وتنحني الجبال لتسمع أنين الأرض، هناك قضية لم تزل تتوارثها الأجيال، كما يتوارثون اسم الوطن: فلسطين، وهي ليست مجرد أرض محتلة، بل جرح نازف في جبين الضمير العالمي، ومرآة تعكس هشاشة القيم حين تعرض في أسواق المصالح.

لقد مضى على النكبة أكثر من سبعة عقود، ولكن النكبات لم تتوقف، بل تشعبت، وتناسلت بأسماء جديدة: حصار، تقسيم، تهجير، استيطان، تطبيع، انقسام، وكأن فلسطين محكومة بأن تبقى بين شِقَّي الرحى: بين احتلال لا يعرف الشبع، وواقع عربي يزداد بعداً عنها كلما اقترب من عواصم القرار الدولي.

ومن رحم المأساة، ولد انقسام داخلي حادّ، تمزقت فيه الراية، وانكفأ المشروع الوطني على ذاته، فغزة محاصرة لا بحدود الاحتلال فقط، بل بأسلاك الخلاف السياسي، والضفة تعيش واقعاً هشّاً تحت ظلال هذه الأطماع والمشاريع الاحتلالية التي لا تتوقف، نحو نهب الأرض وتنفيذ مخططات الضم والاستباحة، في أحلك مرحلة من تاريخ الصراع، غابت فيها وحدة القرار، وضاعت خلالها بوصلة النضال.

ولم يكتف الاحتلال بسرقة الأرض، بل راح يقنّن جريمته في وضح النهار، فهذه المستوطنات تنمو كالفطريات، والقدس تُهوَّد حجراً حجراً، في ظل صمت دولي مريب، تحولت قرارات الأمم المتحدة إلى حبر على ورق، تتناثر على مكاتب دبلوماسية لا تعرف طعم الحقيقة.

وما كان يقال همساً، بات يقال جهراً، فهناك في العمق العربي عواصم عربية فتحت أبوابها أمام من نكّلوا بفلسطين وشعبها، بحجّة "السلام" و"التعاون الإقليمي"، ومع كل توقيع، كانت خريطة فلسطين التاريخية تنزف نقطة جديدة، فهل من المنطق أن يختار الأخ حضن القاتل ويترك الجريح ينزف وحيداً؟

ورغم بروز حركات تضامن دولية، خصوصاً في الجامعات والمجتمعات المدنية وبين أوساط النقابات والحركات العمالية والنخب الفكرية والثقافية والأكاديمية، فإن ماكينة الإعلام الغربي ما زالت تضع القاتل في موضع الضحية، والصورة تحرّف، والرواية تشوَّه، والفلسطيني يقدَّم للعالم كتهديد، لا كضحية احتلال دامٍ.

لكن رغم كل شيء، فلسطين لا تموت، فهي ليست فقط أرضاً تحتل، بل فكرة تسكن القلوب، وهوية عصيّة على المحو، وإن جذوة هذا النضال الوطني الطويل لم تنطفئ، وإن خفت وهجها حيناً، فالشعوب لا تنسى، والمقاومة تتجدد، والتاريخ لا يحابي الظالمين.

إنّ القضية الفلسطينية، بكل تحدياتها، تبقى معياراً أخلاقياً عالمياً، من ينحاز لها لا ينحاز إلى شعب مظلوم فحسب، بل إلى قيمة الإنسانية، إلى الحق حين يغتصب، وإلى الحرية حين تقمع، وإلى إرادة الشعب الفلسطيني الصلبة التي لم ولن تكسر.